.الفصل الثامن والخمسون:
ما زالت المنون ترمي عن أقواس حتى طاحت الجسوم والأنفس، وتبدلت النعم بكثرة الأبؤس، واستوى في القبور الأذناب والأرؤس، وصار الرئيس كأنه قط لم يرؤس.
قل للمفرط يستعد ** ما من ورود الموت بدقد أخلق الدهر الشباب ** وما مضى لا يستردفإلامَ يشتغل الفتى ** في لهوه والأمر جدوالعمر يقصر كل يوم ** بي وآمالي تمدلقد وعظت الدنيا فأبلغت وقالت، ولقد أخبرت برحيلها قبل أن يقال زالت، وما سقطت جدرانها حتى أنذرت ومالت، قرب الاغتراب في التراب، ودنا سل السيف من القراب، كم غنت رباب برباب، ثم نادت على الباب بتباب يا من زمانه الذي يمضي عليه: عليه، يا طويل الأمل وهو يرى الموتى بعينيه، يا من ذنبه أوجب أن لا يلتفت إليه، قد مزجت لك كأس كربة ولا بد والله من تلك الشربة، يا منقولًا بعد الأنس إلى دار غربة، يا طين تربة، وهو يطلب في الدنيا رتبة، هذا مجلس ابن زيد فأين عتبة؟، أتلهو برند الصبا وبأنه؟ ويروقك برق الهوى بلمعانه، وتغتر بعيش في عنفوانه، فتمد يد الغفلة إلى جني أغصانه، وتنسى أنك في حريم خطره وامتحانه، أما لقمة أبيك أخرجته من مكانه؟ أما نودي عليه بالفطر في رمضانه؟ أما شأنه شانه لولا وكف شانه؟ أما يستدل على نار العقاب بدخانه؟ نزل آدم عن مقام المراقبة درجة فنزل فكان يبكي بقية عمره ديار الوفا، برد النفس بالهوى لحظة أثمر حرارة القلق ألف سنة، فاعتبروا، سالت من عينيه عيون، استحالت من الدماء دموع شغلته عن لذات الدنيا هموم.للمهيار:
هل بعد مفترق الأظعان مجتمعُ ** أم أهل زمانٍ بهم قد فات مرتجعُتحملوا تسعُ البيداءُ ركبَهُمُ ** ويحمل القلب منهم فوق ما يسعُالليلُ بعدهمُ كالهجر متصلٌ ** ما شاء والنومُ مثلُ الوصل منقطعُاشتاق نعمان لا أرضى بروضته ** دارًا وإن طاب مصطافٌ ومرتبَعُكان آدم كلما عاين الملائكة تنزل تذكر المرتبع في الربع فتأخذ العين أعلى في إعانة الحزين.
رأى بارقًا من نحو نجدٍ فراعه ** فبات يسح الدمع وجدًا على نجدهل الأعصر اللاتي مضين يعدن لي ** كما كن لي أم لا سبيل إلى الردما أمر البعد بعد القرب، ما أشد الهجر بعد الوصل، يا مطرودًا بعد التقريب أبلغ الشافعين لك البكاء.للمتنبئ:
وكيف التذاذي بالأصائل والضحى ** إذا لم بعد ذاك النسيمَ الذي هبّاذكرت به وصلًا كأن لم أفُزْ به ** وعيشًا كأني كنت اقطعه وثباكان لقوم جارية، فأخرجوها إلى النخاس فأقامت أيامًا تبكي، ثم بعثت إلى ساداتها تقول: بحرمة الصحبة ردّوني فقد ألفتكم. يا هذا قف في الدياجي وامدد يد الذلّ، وقل قد كانت لي خدمة، فعرض تفريط أوجب البعد، فبحرمة قديم الوصل ردوني فقد ألفتكم.
علِّلونا بوصالٍ نافعٍ ** إننا للبعد كالشيء اللقاأو خذوا أرواحنا خالصة ** أو ذروا في كل جسمٍ رمقاوارحموا من تنقضي أيامه ** غمرات والليالي أرقاويح قلبي ما لقلبي كلما ** خفق البرق اليماني خفقايا هذا لا تبرح من الباب ولو طردت، ولا تزل عن الجناب ولو أبعدت، وقل بلسان التملق إلى من اذهب؟
يا ربع إن وصلوا وإن صرموا ** فهم الأولى ملكوا الفؤاد همُشغلوا بحسنهم نواظرنا ** وعلى القلوب بحبهم ختمواأتبعتهم نظرًا فعاد جوى ** ومن الشفاء لذي الهوى سقمتمحو دموعي وسم إبلهم ** وزفير أنفاسي لها يسمكان الحسن شديد الحزن، طويل البكاء سئل عن حاله، فقال: أخاف أن يطرحني في النار، ولا يبالي.
يعزُّ عليَّ فراقي لكمُ ** وإن كان سهلًا عليكم يسيرايا من كان له قلب فمات، يا من كان له وقت ففات، استغث في بوادي القلق ردّوا عليَّ لياليَّ التي سلفتن أحضر في السحر فإنه وقت الإذن العام، واستصحب رفيق البكاء فإنه مساعد صبور، وابعث سائل الصعداء فقد أقيم لها من يتناول.للمصنف:
عبرت بريحكم الصبا سحرًا ** فارتاح قلبي المدنف الحرضما لي أراك سقيمة بهم ** يا ريح عندي لا بك المرضأتبعتها نفسًا أشيّعها ** فإذا جروح القلب تنتقضقف صاحبي إن كنت تسعدني ** عند الكثيب فثمَّ لي غرضوانشد فؤادي عند كاظمة ** في كل ركب راح يعترضأشكو ومني مبتدى ألمي ** عيني رمت وفؤادي الغرضفرضوا على الأجفان إذ هجروا ** لا تلتقي فاصبر لما فرضواكيف اصطباري بعد فرقتهم ** يا جيرة ما عنهم عوض
.الفصل التاسع والخمسون:
يا من سيب قلبه في مراعي الهوى، وألقى حبله على الغارب، سلم من يطول نشدانه للضلال؟.للمهيار:
دع ملامي بالحمى أو رح ودعني ** واقفًا أطلب قلبًا ضاع منيما سألت الدارَ أبغي رجعها ** ربَّ مسئول سواها لم يجبنيأنا يا دار أخو وحشِ الفلا ** فيكِ من خان فعزمي لم يخنيولئن غال مغانيك البلى ** عادة الدهر فشخصُ منك يُغنيإن خَبَتْ نارٌ فهذي كبدي ** أو جفا الغيثُ فهذا لك جفنيأكثر فساد القلب من تخليط العين، مادام باب العين موثقًا بالغض فالقلب سليم من آفة، فإذا فتح الباب طار طائر وربما لم يعد، يا متصرفين في إطلاق الأبصار جاء توقيع العزل
{قُلْ للمؤمنينَ يَغُضُّوا من أبصارِهِم} إطلاق البصر ينقش في القلب صورة المنظور والقلب كعبة
«ويسعني» وما يرضي المعبود بمزاحمة الأصنام.
عيناي أعاننا على سفك دمي ** يا لذة لحظة أطالت ألميكم أندم حين ليس يغني ندمي ** ويلي ثبت الهوى وزلت قدمييا مطلقًا طرفه لقد عقلك، يا مرسلًا سبع فمه لقد أكلك، يا مشغولًا بالهوى مهلًا قتلك، بادر رمقك فقد رمقك، بالرحمة من عذلك.للمهيار:
عثرتَ يومَ العذيب فاستقلِ ** ما كلُّ ساعٍ يُحسُّ بالزللما سلمتْ قبلك القلوب على ** الحسن ولا الراجمونَ بالمقلِسافر طرفي يوم الظعائن بالسَّفْـ ** ـحِ وآبَ الفؤادُ بالخبلِنظرة غرٍّ جنت مقارعة ** يفتك فيها الجبان بالبطلحصلت منها على جراحتها ** واستأثر الظاعنون بالنفلإذا لاحت للتائب نظرة لا تحل، فامتدت عين الهوى، فزلزلت أرض التقى ونهض معمار الإيمان
{وأَلْقَى في الأرضِ رواسيَ أنْ تميدَ بكُمْ} لاحت نظرة لبعض التائبين، فصاح:
حلفت بدين الحب لا خنت عهدكم ** وتلك يمين لو علمت غموسإذا خيم سلطان المعرفة بقاع القلب، بث جنده في بقاع البدن، فصارت السباخ رياضًا لرياضة ساكن في القلب يعمره إذا نزل الحبيب ديار القلب لم يبق فيه نزالة.
وكان فؤادي خاليًا قبل حبكم ** وكان بذكر الخلق يلهو ويمرحفلما دعا قلبي هواك أجابه ** فلست أراه عن فنائك يبرحرميت ببعد منك إن كنت كاذبًا ** وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرحفإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل ** فلست أرى قلبي لغيرك يصلحأول منازل القوم، عزفت نفسي عن الدنيا، وأوسطها لو كشف الغطاء، ونهايتها ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله فيه.
وما تطابقت الأجفان عن سنة ** إلا وجدتك بين الجفن والحدقوهل ينام حزينٌ موجعٌ قلقٌ ** أجفانه وكلت بالسهد والأرقشغلت نفسي عن الدنيا ولذتها ** فأنت والروح شيء غير مفترقفلم تعذبها بالصد يا أملي ** ارحم بقية ما فيها من الرمقأرواح المحبين خرجت بالرياضة من أبدانها العادات، وهي في حواصل طير الشوق ترفرف على أطلال الوجد، وتسرح في رياض الأنس عند المحبين شغل عن الجنة فكيف يلتفتون إلى الدنيا؟، ما ترى عين المحبين إلا المحبوب، فبي يسمع وبي يبصر.
أنت عين العين إن نظرت ** ولسان الذكر إن ذكراأنت سمعي إن سمعت به ** أنت سر السر إن خطراما بقي لي فيك جارحة ** كلها يا قاتلي أسراباتت قلوبهم يقلقها الوجد، فأصبحت دموعهم يسترها الجفن، فإذا سمعوا ناطقًا يهتف بذكر الحبيب، أخذ جزر الدمع في المد، من أقلقه الخوف، كيف يسكن؟ من أنطقه الحب، كيف يسكت؟، من آلمه البعد، كيف يصبر؟ سل عنهم الليل فعنده الخبر، أتدري كيف مر عليهم؟ أبلغك ما جرى لهم؟ أيعلم سال كيف بات المتيم؟، افترشوا بساط قيس، وباتوا بليل النابغة، إن ناحوا فأشجى من متيم، وإن ندبوا فأفصح من خنساء، اجتمعت أحزاب الأحزان، على قلب الخائف، فرمت كبداء الخوف الكبد فوصل نصل القلق ففلق حبة القلب فانقلب فصاح الوجد من شاء اقتطع، فلو رأيت فعل النهاية لرحمت المتمزق.للمهيار:
أيها الرامي وما أجرى دمًا ** لا تجنب قد أصبتُ الغرضااطلبوا للعين في أثنائه ** نظرةً تكحِلُها أو غُمُضاطال حبس المحبين في الدنيا عن الحبيب، فضجت ألسن الشوق فلو تيقظت في الدجى سمعت أصوات أهل الحبوس.للمصنف:
طال ليلي وداما ** ومنعت المناماوجد الوجد عندي ** منذ بانوا مقاماليتهم حين راحوا ** ودعوا مستهاماسار قلبي وجسمي ** لم يسر بل أقامالست أدري فؤادي ** إذ غذوا أين هاماحبهم قرت قلبي ** منذ كنت غلاماحملوا ضعف قلبي ** يذبلا وشماماكم رموني برشقٍ ** وأحدوا سهاماما لعيني تبكي ** إن سمعت حماناكلما ناح رشت ** فظننت الغماماهل نسيم لكربي ** أين ريح الخزامىهجركم يا حبيبي ** كان موتًا زؤاماأكل اللحم مني ** ثُم أبلى العظاماصار ليلي نهارًا ** ونهاري ظلاماإنما بتُّ أشكو ** لوعتي والغرامافاعذروا أو فلوموا ** ما أبالي الملاماإفرجوا عن طريقي ** قد خلعت اللجاماورميت سلاحي ** وكشفت اللثاماأسعدوني فإني ** قد فنيت سقاما